عرض: محمد عبدالخالق
تعيش مصر حاليا "فعلا ثوريا" ليس غريبا عليها، فنظرة مقارنة متأنية لأحداث التاريخ تكشف لنا سريعا أن عنصري "الفعل الثوري" ليسا غريبين عليها، فـ"الثورة" ليست غريبة علي مصر، المجتمع الذي قال عنه البعض إنه يشهد ثورة كل خمسين عاما تقريبا، أما "الفعل الثوري" ذاته، فإذا اعتبرناه اصطلاحا يشير إلي تفاصيل الثورة وتبعاتها الداخلية في إعادة بناء النظام المهدوم، فسنجد أنه أيضا ليس غريبا، ونسبة كبيرة من تفاصيله عرفها الشعب، ومرت علي هذا البلد من قبل.
لتفسير هذه المقدمة النظرية، التي تذهب إلي وجود ثمة تشابهات في "الفعل الثوري" الذي نعيشه حاليا "ثورة 25 يناير" وبين "الفعل الثوري" الذي عاشته مصر عقب ثورة 23 يوليو 1952، نستعين بقراءة في كتاب "ذكرياتي عن الثورة" لسليمان حافظ، أحد الرجال الذين عاشوا ثورة "يوليو 52" عن قرب، وهو الرجل الذي رفض منصب رئيس الوزراء في ثاني حكومات الثورة، ليتم تعيينه وزيرا للداخلية ونائبا لرئيس الوزراء، والمستشار القانوني للرئيس محمد نجيب، وكان أيضا أحد أربعة مدنيين انضموا إلي مجلس قيادة الثورة، وأحد أعضاء اللجنة الثلاثية التي كتبت وثيقة تنازل الملك فاروق عن العرش، التي حملها بنفسه لتسليمها للملك.
هذا الكتاب الصادرة طبعته الأولي عن دار "الشروق" 2010 يتحدث عن تفاصيل ثورة 52 منذ بدايتها وحتي إلي ما بعد "النكسة" 1967 من خلال مذكرات سليمان حافظ الشخصية، "موقف الجيش من الثورة" و"الأحزاب" و"إسقاط الدستور" و"الدستور المؤقت"، هذه المحاور تحديدا يشعر قارئها بشكل مباشر أن التاريخ مر بسرعة علي صفحات الكتاب، ليقطع هذه المسافة ويصل إلي حاضرنا الذي نعيشه عقب ثورة 25 يناير 2011 .
1- موقف الجيش من الثورة
فإذا بدأنا بـ"موقف الجيش من الثورة" في الثورتين، سنجد أن الإطار العام يقول إن الجيش كان "صاحب" الأولي، بينما كان "حامي" الثانية، وفي الحقيقة هذا الوصف مخل للمعني، فالجيش في الثورة الأولي كان معبرا عن إرادة واحتياج شعب، لم يتوافر له وعي كاف أو إمكانيات للقيام بثورة، فقام بها أبناء الشعب بـ"الجيش"، بما يمتلكونه من وعي وإمكانيات، وأكبر دليل علي هذا أن الشعب التف فورا وبجميع أطيافه حول حركة الجيش، وهذا الالتفاف هو ما منح تلك الحركة لقب "ثورة".
أما في الثورة الثانية "25 يناير" فكانت شرارة البداية من الشعب، الذي وصل لدرجة من الوعي بحقوقه، تمكنه من المطالبة بها دون وصي، وفي هذه الثورة أيضا كان الجيش إحدي فئات هذا الشعب، فاحتضن ثورته ومطالبه وحماها، وكان موقفه واضحا وصريحا من قمة هرمه لقاعداته.
وكان للجيش في الثورتين الكلمة الأخيرة في عزل الملك في الأولي، وفي "خلع" مبارك في الثانية، بعدما فكر في استخدام القوة ضد المتظاهرين، وإن اختلف وضعه بعد الثورتين، فإذا كان الجيش تولي السلطة عقب ثورة 52 ورفض الدعوات التي نادت بعودته إلي ثكناته، وكانت دعوة اللواء محمد نجيب بتسليم السلطة للمدنيين سببا في عزله ووضعه قيد الإقامة الجبرية، فإن الجيش في ثورة يناير أعلن من اللحظة الأولي أنه سيحمي الثورة ويقود البلاد لفترة انتقالية، لكنه لن يكون بديلا للشرعية، وتعهد بحماية الديمقراطية وتسليم البلاد لسلطة مدنية منتخبة، وهذه كانت نقطة الخلاف الوحيدة في موقف الجيش من الثورتين.
فثورتا يوليو 1952 ويناير 2011 أثبتتا أن الشعب والجيش كيان واحد، ليس من المهم من يبدأ الخطوة الأولي، ولكن المهم أنهما يصلان في النهاية لإسقاط الظلم.
2- "الأحزاب"
وضع أي نظام نيابي ديمقراطي لا يستقيم إلا باستقامة الأحزاب، فإذا صلحت صلح، وإذا فسدت فسد، وكان من أهداف ثورة 52 إعادة الحياة النيابية لمصر، علي أساس سليم من خلال توصيل روح الثورة إلي تلك الأحزاب، التي كانت قد أصبحت في نهاية عصر فاروق صورة بغير معني أوحتي روح.
وعندما حاولت الثورة تنظيم العمل الحزبي ليعود بقوة للعمل النيابي، واجه مشروع قانون "تنظيم الأحزاب السياسية" اعتراضات من هذه لأحزاب نفسها وبعض رجال القانون، باعتبارها جمعيات جري العرف الدستوري علي عدم التعرض لها، وترك أمر تنظيمها لرجالها، وبعد مناقشات حول ضرورة إصلاح الأحزاب لينصلح حال النظام النيابي، تمت الموافقة علي القانون، بشرط ألا يتم تدخل الإدارة في عمل الأحزاب إلا عند الضرورة لتحقيق أغراض القانون، وأن يكون التدخل تحت رقابة مباشرة من القضاء، وبمقتضي هذا القانون تم اعتبار جميع الأحزاب منحلة، علي أن يعاد تأسيسها من جديد وفقا لأحكامه.
وموضوع تنظيم الأحزاب والعمل الحزبي هذا يستدعي للذهن فور قراءته ما حدث بعد ثورة 25 يناير، التي لم تطح فقط بمبارك، وإنما أطاحت بحزبه "الحزب الوطني"، الذي كان يحكم البلاد ظلما وجورا، وتم حل الحزب بحكم قضائي بتهمة إفساد الحياة السياسية، في ظل مطالبة البعض بحرمان أعضائه من العمل السياسي لفترة معينة.
كما شهدت مصر نشاطا قويا في حركة إنشاء الأحزاب، بعدما أتيحت الفرصة لجماعات واتجاهات عديدة كانت محرومة من العمل السياسي، للمشاركة بعدما قضت أعواما "محظور" عليها المشاركة.
وقامت الأحزاب القديمة بتنظيم أوراقها، وإعادة هيكلة مكاتبها، وتطوير سياساتها وأهدافها، وليس أدل علي هذا من الانتخابات التي انتهت منذ أيام قليلة بحزب "الوفد".
وتم فتح الباب علي مصراعيه لإنشاء أحزاب جديدة بقانون يتنظم إنشائها، توافق عليه المجلس العسكري الذي يدير شئون البلاد في الفترة الانتقالية، وجميع الأطياف السياسية بالمجتمع، بل وقرر المجلس تحمل رسوم إنشاء الأحزاب، بعدما اشتكت بعض التيارات من عدم طاقتها به، لحداثة عهدها بالعمل العام.
إذن نحن أمام نموذجين لتنظيم العمل السياسي الحزبي، تما عقب الثورتين، وإن اختلفا في التفاصيل، فإن هدفهما واحد.
3- "إسقاط الدستور"
عد قيام ثورة 52 تشكلت لجان قضائية للقيام بما أطلق عليه وقتها "تطهير مؤسسات الدولة"، وأول ما اصطدمت به هذه اللجان هو دستور 1923 الذي حمي الوزراء وكبار رجال الدولة، ووقف عائقا دون محاكمتهم جنائيا وسياسيا، في حين كان الباب مفتوحا علي مصراعيه لمحاكمة صغار الموظفين، مما مثل لدي جهات التحقيق ضغطا نفسيا.
ويصف سليمان أجواء الدعوة إلي إسقاط دستور 23: "حدث في هذه الأثناء أن قامت حملة علي دستور 1923 وما فيه من فجوات، كانت هي التي هيأت السبيل لفساد الحكم وطغيان الحاكم، فنفذ منها إلي الاعتداء علي حقوق الأمة وتجريدها من سلطاتها".
ثم شهدت تلك الفترة دعوة إلي إسقاط الدستور بصفته "فرض علي الأمة فرضا في ظروف لم يكن يسعها إلا أن تقبل ما فرض عليها، وذلك حتي يتاح لها أن تمارس حقها في سن دستور يكون وليد إرادتها... خاصة أنه استنفد وقته وظروفه وغايته... مطالبين بدستور يواجه الظروف الجديدة ويحقق للأمة من الغايات ما تساير به ركب الأمم المتحضرة".
وهو ما تم التوافق عليه وقررت اللجنة المشتركة في اجتماعها آخر ديسمبر 1952 إسقاط الدستور ووضع دستور جديد إما بواسطة جمعية تأسيسية منتخبة، وإما عن طريق الاستفتاء المباشر مع تخويل الحكومة في هذه الاثناء جميع السلطات تباشرها في ظل المبادئ الدستورية العامة حتي نهاية الفترة الانتقالية.
وأعتقد أن هذه الأحداث بحاجة لذكر تواريخها، حتي لا يتم الخلط بينها وبين ما نعيشه حاليا، فدستور 23 وصل إلي حالة من الفساد السياسي خدمت الطبقة الحاكمة وقتها والملكية في جميع النواحي، دون الالتفات لمصالح الشعب، وهو ما حدث مع دستور 72 الذي لم يكتف النظام السابق بعواره وحصر جميع السلطات في يد الرئيس، وإنما عدل وبدل فيه مستعينا ببعض ممن أطلق عليهم الشعب المصري الواعي "ترزية القوانين" مواد تمهد لنقل السلطة لشخص بعينه، وهو ما لم تسمح به ثورة يناير.
وكذلك ما يحدث حرفيا في النقاشات حول وضع دستور جديد بعد ثورة 52، هو ما حدث عقب ثورة يناير، مع اختلافات بسيطة في بعض التفاصيل، تمثلت في وضع الدستور أولا أم إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية أولا، كما أن اللجنة المنتخبة التي تمثل جميع الأطياف السياسية والقوي المجتمعية التي يعهد إليها وضع الدستور الجديد، هو ما ينادي به الآن أيضا.
4- الاحتكام إلي دستور مؤقت أو "إعلان دستوري"
ومن المواقف العديدة التي تشاركت فيها ثورتا مصر، الاحتكام إلي دستور مؤقت لحكم البلاد، مع اختلاف بسيط في التسمية والمدة التي تم العمل به، حيث تم عمل دستور مؤقت أوائل 1953 بعد أزمة بين مجلس قيادة الثورة والأحزاب السياسية وقتها، انتهت بحل الأحزاب، وإصدار دستور مؤقت لحكم البلاد في فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، تم إصدار إعلان دستوري عقب ثورة يناير لحكم البلاد في الفترة الانتقالية التي حددها المجلس الأعلي للقوات المسلحة بشهور قليلة حتي يتم إجراء الانتخابات النيابية قبل نهاية شهر سبتمبر 2011.
إنه الدستور المصري، الذي حاول الرئيس الراحل أنور السادات تعديل مواده لضمان الحكم مدي الحياة، فلم يكمل بعدها عاما حتي أغتيل في المنصة، ليستفيد بهذه المادة مبارك، وكذلك هو نفس الدستور الذي حاول مبارك تعديله ليولي ابنه مكانه، فانقلب عليه الشعب في ثورة أطاحت به وبنجله، ليستحق هذا الدستور أن يشارك آثار الفراعنة في أسطورة لعنتها، ويقال عليه: "للدستور شعب يحميه".